الخميس، 3 فبراير 2011

الخيارات الآمنة لما بعد صالح



محمد عايش
الخائف لا يحسن التصرف، إنه يكتفي فقط بالترقب وإبقاء إصبعه على الزناد، وهذا هو حال نظامي حسني مبارك وعلي عبد الله صالح منذ سقوط التونسي زين العابدين.
التحليلات ذات الطابع الدولي، التي انتشرت غداة فرار بن علي، ذهبت بمعظمها
إلى ترشيح مصر واليمن كبلدين جاهزين لاستقبال عدوى الثورة التونسية، لكن وطوال نحو أسبوعين مرا على زلزال تونس، لا مبارك ولا صالح أقدما على أي تصرف يقلل من فرص تحقق التكهنات بشأنهما، كأن يغامرا بتقديم رشوة مقنعة لشعبيهما من نوع إجراء تغييرات كبرى في هيكل الدولة والحكم والدعوة مثلا لانتخابات رئاسية مبكرة (بدون تعديلات دستورية "تمديدية" في اليمن، وبعد تعديلات تلغي المواد الدستورية المفصلة على مقاس مبارك؛ في مصر).
خطوة مثل هذه، أو غيرها، ستنم عن بقية من عقل يملكه الرجلان الطاعنان في الحكم. لكنهما لم يفعلا شيئا، وليسا في وارد أن يفعلا، وهذا من حسن حظ شعبيهما اللذين أُتخما بالكذب وبالرشى السلطانية طوال ثلاثة عقود.
مبارك يراهن على قوات الجيش والمخابرات وأمن الدولة، كما يراهن على حاجة أمريكا وإسرائيل الماسة إليه وإلى نظامه، وهو رهان خائب لأن ما ليس سهلا على أجهزة النظام نفسه أمام طوفان الغضب الداخلي، لن يكون سهلا على حلفائه الخارجيين.
بينما صالح يراهن (بالإضافة إلى اعتقاده بأن "اليمن ليست تونس" حسب تعبيره المهين لشعبه)؛ يراهن على نسقين من الدفاع: الجيش وقوات الأمن، وهذا هو النسق الأضعف كما يعرف صالح جيدا، والنسق الثاني هي القبيلة.
بغض النظر عن الآفاق المنظورة والقريبة للاحتجاجات الشعبية، المتصاعدة في مصر، والمسيطر عليها حتى الآن في اليمن، فإننا، دون شك، نعيش مرحلة انتقالية ذات طابع يرقى إلى التاريخية، أو إننا نعيش نهاية حقبة وبداية حقبة جديدة: نهاية حقبة أنظمة ما بعد الاستعمار وثورات التحرر، وبداية حقبة لن تكون سيئة كما تعتقد بعض الرؤى المتشائمة، بل ستكون بنفس مضمون التحول القائم الآن في بلدين عربيين (على اختلاف طبيعة فعل التغيير فيهما) هما العراق وتونس: التحول نحو الديمقراطية ولو ببطء وبثمن "مقبول" و "مستحق" من التضحيات.
 لن ننتظر طويلا حتى نرى النهاية العادلة لبن علي وهي تتحقق هنا في صنعاء مع صالح.
والمسألة أسهل من المتوقع، فكلما يحتاجه النظام الآن كي يتطاير ككومة صوف، هو احتجاجات واعية، من نوع احتجاجات سيدي بوزيد، لا تستمر 27 يوما بل أسبوعا واحدا على الأكثر، بشرط أن تكون هذه الاحتجاجات، وعلى وجه الخصوص، في صنعاء وتعز (واضغطوا جيدا على مفردة "تعز"؛ المحافظة التي تحتاجها بشدة هذه اللحظة التغييرية في اليمن، وأتوقع أن سبات هذه المحافظة لن يطول أكثر بما أنه أصبح غير مفهوم).
بعد انتفاض صنعاء وتعز؛ هناك 6 محافظات جنوبية ستكون تلقائيا خارج السيطرة، تضاف إليها صعدة وعمران والجوف ومأرب الواقعات عمليا خارج الأذرع الضعيفة للرئيس.
لن تفلح عمليات القمع بواسطة قوات الحكم، التي سيتشتت جهدها ولن تجد أصلا قوة عسكرية أمامها لمحاربتها، ولذلك ستنكمش من مختلف المناطق محاولة صنع سياج حول رأس النظام فقط، وحينها سنشهد، كأوضح احتمال، لجوءا رئاسيا سريعا إلى سلاح القبيلة: ستنقض حاشد والحدأ وعنس (بما أن الأخيرتين باتتا من أنسباء الرئيس، وربما تنظم إليهما خولان) على العاصمة صنعاء، وسيكرر الإمام أحمد حميد الدين فتح أبواب العاصمة أمام استباحة قبلية قد تكون مريعة لكنها ستنتهي بانتهاء النهب و لن تنجح في حماية دار الرئاسة، الدار التي ستتحول بفعل هذا الانقضاض إلى مجرد قصر يسكنه زعيم ميليشيا بعد أن كان رئيسا شرعيا، ولأن ليس في العمر ما يكفي لقيادة حرب "استعادة" فإن الرحيل هو الحل الناجع دائما.
هذا هو السيناريو الأكثر وضوحا وبساطة. أما ما بعده فلن يكون، باعتقادي على الأقل، مخيفا كما يتصور الزميل العزيز محمد العلائي، وعلى كل لسنا، على الإطلاق، في وارد أن نشهد تكرارا للنموذج الصومالي في اليمن لأسباب عديدة، وتكفي الإشارة إلى أن مرحلة اللاديمقراطية واللاشمولية، واللادولة واللاإنفلات، التي نعيشها الآن؛ أفرزت قوى سياسية ضعيفة أو مسترخية، وهذا صحيح جدا، لكنها ستوفر بعد انهيار صالح إطارا معقولا لاحتواء الوضع سياسيا، وتشكيل حالة انتقالية بحد أدنى من الخسائر.
 فهناك اللقاء المشترك، ورغم كل ضعفه أو كل حالة "الاستحياء" التي يحافظ عليها الآن؛ يظل في النهاية إطارا سياسيا قادرا على خلق صيغ لاحتواء الوضع السياسي والاجتماعي الذي لن يذهب باتجاه "حرب الجميع ضد الجميع"، فالمجتمع اليمني أصلا تحكمه سلطات عرفية تقليدية، سابقة للدولة، هذه السلطات ستعزز وجودها، أو تعيد إنتاج نفسها على غير صعيد، بما يضمن الحد المعقول من التعايش وسط الفوضى، ليأتي تاليا دور الأحزاب والنخب في إعادة بناء جسد سياسي يمهد لعودة الدولة، وأشير هنا بشكل خاص إلى المحافظات التي للأحزاب فيها حضور تتقاسمه مع الحاكم الآن مثل تعز وإب وصنعاء ومحافظات جنوبية.
 وهناك، ثانيا، الحراك والقيادات الجنوبية في الخارج، وبرغم الانقسامات الحاصلة داخل هذا المسار إلا أنه ينطوي على الأنوية المعقولة لنشوء مشاريع ومبادرات سياسية عديدة سرعان ما ستستوعب الوضع في الجنوب، حتى لو كان أبرز مشروع سيقفز إلى الواجهة هو "الانفصال"، ولكن الانفصال "الآمن" هذه المرة (مع الإبقاء في الاعتبار على فرضية أن رحيل نظام صالح سيقلل من مبررات الانفصال نفسه).
 وهناك أيضا الحوثيون كجماعة سيزج بها هذا التحول إلى معمعة السياسة والالتقاء بالنخب السياسية الأخرى في صنعاء، ما سيوفر، في الحد الأدنى، تأمينا لأوضاع محافظات شمال الشمال من الانفلات في الفوضى.
ولكن: أين ستذهب حاشد؟ وهل ستتنمر للحفاظ على الامتياز الذي توفر لها طوال الثلاثين عاما الماضية، وبما يفتح احتمالات الدخول في سلسلة حروب قبلية كالصومال؟
أستبعد ذلك، فحاشد حتى هذه اللحظة حجزت موقعها داخل وضع "ما بعد صالح"، فهناك الشقيقان حميد وحسين، الأول قائد في المعارضة التي تبحث عن إسقاط صالح، والثاني يجلس على رأس جبهة ثالثة ستحسم أمرها تبعا لرغبة عدم استبعادها من الوضع الجديد، أوتبعا لخيار الجيران في السعودية (التي بدورها؛ وبعد حرب صعدة تحديدا، باتت أزهد في الدفاع عن صالح، و أضعف من أن تستولي أيضا على العهد الجديد كما فعلت بعد سبتمبر 62). وعبر حميد وحسين ستكون حاشد القبيلة الأسرع إلى تمثيل نفسها داخل العهد الجديد بحثا عن غنائمه، ولو بعد أن تؤدي دورها في الدفاع المحدود عن صالح كـ"إسقاط واجب" فقط، وأيضا ولو بنوايا مؤجلة للسيطرة على كل شيء فيما بعد، كما حدث في ثورة سبتمبر وبعدها بالضبط، مع فارق أن الوعي الآن أكثر تطورا من السماح للقبيلة ببسط يدها على الثورة من جديد.
وأشير كنهاية، وتعليقا على صديقي العلائي الذي استمتعت بقراءته في صحيفة "الأولى" يوم الخميس، إلى أن دوامة العنف التي دخلتها البلاد في الشمال بعد ثورة سبتمبر لم تكن أيضا بهذا القدر من السوء ولم تحول البلاد إلى "صومال"، وبرغم مرارة ما أنتجته الصراعات آنئذ إلا أننا في النهاية تقدمنا خطوة إلى الأمام. مع أنه صحيح أيضا أن هذه "الخطوة للأمام" كان بالإمكان تحقيقها دون دماء ودون انقلاب عسكري بل بضغط شعبي وعلى نحو سلمي كما ظل يشير إليه دائما الأستاذ النعمان.
--------------------
نشر في صحيفة "الشارع" 28/1/2011م.

ليست هناك تعليقات: