الأربعاء، 26 نوفمبر 2008

ثلاث استراتيجيات أخفق فيها ''رَجُل'' الرئيس فأطاحت به


سيكون إهدارا للفرصة الاكتفاء بالحديث عن "الكفاءة" و"النزاهة" كسبب في استقالة عبد القادر هلال، إن هذا حديث مفروغ منه، والأجدى النفاذ إلى طبيعة السياق السياسي والأمني الذي جاء الحدث محصلة له. إنه السياق نفسه الذي يدير أبرز مشكلات البلاد ويصنعها في ذات الوقت. هناك فروق مهمة بين النهاية الدرامية لخدمة هلال ضمن طاقم كبار موظفي الرئيس صالح، وبين الاستقالات الثلاث الشهيرة: فرج بن غانم من رئاسة الحكومة، وأحمد الشامي من وزارة الأوقاف، وفيصل بن شملان من وزارة النفط. فهؤلاء الثلاثة جاؤوا من خلفيات سياسية ومهنية مختلفة، لتفرضهم في مناصبهم لحظة سياسية معينة وجد الرئيس نفسه مستجيبا لها، وحين اصطدموا بثوابت الفساد سجلوا مواقف أخلاقية وانسحبوا إلى منازلهم.
في حالة هلال، الصورة مختلفة، فهذا رجل ولدت سيرته المهنية، أصلا، في حاضنة النظام الحاكم نفسه؛ وتمت



 تنشئته مهنيا بشكل مخطط له، ولكي يصبح في النهاية ما أصبح عليه: واحدا من "رجال" الرئيس، وهنا يكمن البعد الأول من أبعاد الأهمية التي تكتسبها استقالة هلال.
والأبعاد الأخرى تكمن في ارتباط "رجل الرئيس" هذا، وخلال السنوات الأخيرة خصوصا، بالملفات الشائكة الثلاثة: الإدارة المحلية، الجنوب، وصعدة.
المصداقية والكفاءة اللتان حافظ عليهما خلال تدرجه في المواقع الرسمية، عززتا من أهميته لدى الرئيس، لكنها، وعلى نحو ساخر، أهمية مرتبطة بحاجات الرئيس نفسه لا بما يخدم الشغف الشخصي لدى هلال بتحقيق إنجازات "وطنية" فعلا.
هكذا ستصبح المهمة الأساسية (أو الجزء الأكبر من الوظيفة المحددة) لعبد القادر هلال، هي "خلق انطباع": يكلفه الرئيس بحقيبة الإدارة المحلية كي يخلق "انطباعا" لدى الدول المانحة بأن نظامه جاد في العمل على الانتقال إلى الحكم المحلي، ويكلفه مع باصرة بدراسة جزء من مشكلات الجنوب ليخلق "انطباعا" لدى الجنوبيين بأن الرئيس جاد في التعامل مع مشاكلهم، ويسند إليه رئاسة لجنة إعادة الإعمار بصعدة ليترك "انطباعا" بمصداقية الرئيس في إنهاء ملف الحرب ولملمة كوارثها.
ربما أثبتت الاستقالة المعلنة أن هذا النوع من التوظيف لم يكن لينجح مع هلال إلى النهاية. اتركوا هذه النقطة وانتقلوا للسؤال التالي: ما الذي لدى الرئيس بشأن الملفات الثلاثة الآنفة؟ وما طبيعة الاستراتيجيات التي تحكم أداء علي عبدالله صالح حيال هذه الملفات، ويداري عنها بتكتيك خلق "الانطباع" هذا، وعبر موظفين كعبدالقادر هلال؟

الحكم المحلي وإعادة صياغة المجتمع

الانتقال إلى الحكم المحلي و"اللامركزية" هو مطلب للدول المانحة، وفي سبيله تنفق الكثير من السياسات والمنح المالية، غير أنه أيضا مطلب للرئيس صالح، ولكن ليس بما هو تطوير مهم للنظام السياسي في البلاد، بل لأنه وسيلة حيوية جدا لتحقيق الهدف الأقصى للرئيس: إعادة صياغة خارطة القوى في اليمن بما ينسجم مع طموحاته في تأبيد الحكم داخل عائلته.
منذ العام 97 على الأقل، انتقل الرئيس إلى المرحلة المتقدمة من ترويض البلاد، عبر الإجهاز على ما تبقى من مراكز قوى تقليدية تعتبر نفسها شريكة له في الحكم، أو تطمح إلى أن تكون كذلك يوما. بيت المشيخ التقليدي في حاشد (آل الأحمر) بدأت محاصرته، كما بدأت سياسات تضييق الهامش على التيار الإسلامي ممثلا بحزب الإصلاح، وطبعا بعد إنجاز إزاحة الحزب الاشتراكي كممثل للجنوب، قبل 3 سنوات على هذا التاريخ. حتى مراكز النفوذ الفرعية، أي على مستوى مشائخ قبائل صغيرة أو غير قوية، كانت هدفا للترويض أيضا، واتخذ "الترويض" أشكالا متعددة؛ من تخفيض سقف الامتيازات الممنوحة سابقا لكل مركز إلى افتعال وقائع تحد من النفوذ أو تقضي عليه.
لكن الشكل الأبرز والأكثر جدوى على كل الصعد، هو خلق مراكز نفوذ بديلة تكون مدينة بالكامل للرئيس صالح باعتبار أنه وحده من بنى نفوذها من "الصفر". بالإمكان الإشارة سريعا، في هذا السياق، وكتمثيل فقط، إلى خارطة "مصاهرات" عائلة الرئيس الحديثة منها والأحدث، إنها مصاهرات مدروسة جيدا، أفضت ببساطة إلى صناعة احتياطي قوة كبير لمصلحة الرئيس يمتد من قبيلة حاشد عبر بيت أبو شوارب، إلى قبيلة بكيل التي أصبحت أهم فروعها شريكة في دولة الرئيس، فهو على علاقة مصاهرة بأبرز بيوت المشيخ في قبائل: خولان، الحدأ، وعنس.
عام 2004 شهد الخطوة التالية؛ حين أطلق الرئيس حربا في صعدة هدفها، النهائي، احتواء تيار ديني تقليدي يمكن أن يشكل في المستقبل خطرا على الرئيس، خصوصا لجهة انتماء هذا التيار إلى منطقة الحكم نفسها: المرتفع الشمالي الممتد من صعدة حتى ذمار. وأن يصبح علي عبد الله صالح مركز القوة الوحيد، فإن مثل هذه الخطوات تبدو ناقصة، والمطلوب هو إحداث تغيير أكثر عمقا وأقدر على تجديد أدوات القوة والحكم أيضا.
إن من شأن هذا التغيير أن يحدث "الخضة" اللازمة كمقدمة لإعادة رسم خارطة المجتمع بشكل مثالي، وهنا بالضبط يأتي دور "الحكم المحلي"، فهو تغيير في صيغة النظام السياسي القائم، على مستوى السطح، لكنه سيسهم في تمرير تغيير آخر في بنى مراكز القوة والنفوذ داخل المجتمع. وهذا الجزء الأخير هو الوظيفة النهائية لدى الرئيس لقضية الانتقال نحو نظام المحليات.
انتخابات المحافظين تشرح بشكل جيد ما أتحدث عنه: هذه الانتخابات، وبفضل المعايير القانونية والإجرائية التي حبكت بعناية فائقة لإقامتها، أفضت إلى خلق طبقة جديدة من كبار موظفي الحكم، جميعهم لا يعبرون عن أية قوة موجودة في المجتمع؛ أكانت قوة سياسية أو مالية أو دينية أو قبلية أو مناطقية، لقد جاؤوا إلى مواقعهم مسنودين فقط بمركز قوة وحيد: هو علي عبد الله صالح. ولقد حرص الرئيس على أن يسقط في هذه الانتخابات كل مرشح يمكن أن يبدو نجاحه محسوبا لأي طرف غيره، حتى لو كان هذا الطرف هو المؤتمر الشعبي العام.
هل كان عبد القادر هلال يعي بهذه المشاريع الرئاسية للحكم المحلي؟ وهل عمل بالتالي ضدا عليها، أو لم يبد حماسا كافيا لتحقيقها؟ رغم المعروف من مصداقية الرجل، إلا أن لا سبيل إلى الجزم بإجابة يقينية، وما بأيدينا فقط هو مجموعة مؤشرات؛ مؤشرات على حماس هلال لمصلحة نظام حكم محلي بمعايير النظم المحلية نفسها في العالم. مثلا ما حدث في مجلس النواب خلال مناقشة تعديل قانون السلطة المحلية، قبيل الانتخابات في أبريل الماضي، هو أحد المؤشرات المهمة، فقد وقف عبد القادر هلال وحيدا داخل البرلمان يرجو من الأعضاء إعادة النظر في القرار الذي أجمعوا عليه (بمن فيهم أعضاء كتل المعارضة) بشأن التصويت لمصلحة البند الذي يجيز أن يكون المتقدم للترشيح في انتخابات المحافظين من خارج المحافظة، إنه أحد البنود التي تنزع من انتخابات المحافظين ميزة رئيسية لها تتمثل في حق أبناء المحافظة بحكم محافظتهم بأنفسهم.
ولقد تم إقرار البند رغم معارضة هلال.
هناك المؤشر الآخر: ما لم تلحظه وسائل الإعلام، هو أن حالة من التذمر الواضح كانت سائدة داخل قطاعات موظفي الدولة تجاه عبدالقادر هلال، منذ ما قبل أشهر على الاستقالة. مرد هذا التذمر هو "توحيد الهيكل". وتوحيد الهيكل هو أحد المطالب الرئيسية للانتقال إلى اللامركزية، ويعني دمج فروع الوزارات في مختلف المحافظات ضمن هيكل وظيفي واحد يكون تابعا للسلطة المحلية هناك، لا للوزارات في العاصمة. يتم تداول هذا المفهوم بكثرة لدى موظفي المواقع الكبيرة والمتوسطة في الوزارات وفروعها، باعتباره "خطرا" يهدد المصلحة الوطنية (مصلحة الموظفين أنفسهم)، مع تحميل هلال مسؤولية هذا الخطر. وبشكل يبدو ممنهجا يتم تفسير الأمر على أنه "قضاء على أجهزة الحكومة لتكون وزارة الإدارة المحلية هي الحاكم الوحيد بما أنها هي المنظمة لعمل السلطات المحلية". الخفة في هذا التفسير تصلح كدليل على وقوف الأجهزة المعنية بصناعة "الشائعات" خلف المسألة، ولعل في ذلك ما يشير أيضا إلى أن المعركة مع هلال بدأت أولا بإسقاط سمعته داخل جهاز الدولة نفسها.

الجنوب والرهان على مرور الوقت

يعرف الرئيس علي عبد الله صالح، بشكل مساوٍ لمعرفة الجنوبيين أنفسهم، ما هي طبيعة مشكلة الجنوب؛ مشكلته سكان جنوبيون كانت لديهم دولة ولم يعد لديهم الآن شيء.
حل هذه المشكلة بالنسبة للرئيس هو الرهان على عامل الزمن، فمرور الوقت وحده، مع مقدار كافٍ من "القبضة الحديدية"، كفيل بخلق حالة نسيان عامة لدى الناس هناك بالوضع الذي كانوا عليه والدولة التي كانت لديهم.
وحين ذهب عبدالقادر هلال بصحبة الوزير باصرة، إلى الجنوب لتقصي مشاكل الأراضي، ذهبا بعقلية مراهقين بريئين يحاولان إثبات كفاءتهما؛ أنجزا تقريرا صاخبا رصدا فيه ممارسات 15 شخصية رسمية عابثة، وسلماه للرئيس، ولقد ظهرا أمامه ساذجين جدا، بعكس رؤساء وأعضاء لجان أخرى مماثلة كلجنة عبدربه منصور أو يحيى الشعيبي أو سالم صالح، وجميعها لجان أدت مهمتها على نحو جيد: أي لم تفعل شيئاً.
تجاوز هلال وباصرة مهمة "خلق انطباع"، وعملا على تشخيص واحدة من المشاكل الحقوقية لدى مواطني الجنوب، غير أن الرئيس يدرك أن المشكلة برمتها "سياسية" لا حقوقية، وكان المطلوب له من الثنائي "المخلص" أن يقوما فقط بنزهة تطمينية في الجنوب، والعودة سالمين، لا أن يعودا بتقرير يدين 15 شخصا يقومون أصلا بمهمة موكلة إليهم (العبث بالأراضي وبالوظائف وبمختلف الحقوق، يبدو بالفعل كما لو كان مهمة رسمية، فتمويه المشكلة السياسية في الجنوب لن يحدث ما لم تكن هناك مشاكل حقوقية من نوع تسريح الجنود أو الاعتداء على الأراضي، فأن يخرج الناس مطالبين بالعودة إلى الوظيفة أو استعادة قطعة الأرض، أفضل من التظاهر في سبيل استعادة دولتهم التي انهارت عام 90، أو العودة إلى التمثيل في دولة الشمال بواسطة الشراكة التي أسقطت عام 94).
لقد فشل هلال في مهمته "الجنوبية" إذن، وحماسه الزائد لمثل هذا النوع من الفشل يجعل من الأفضل للرئيس أن يتهيأ لينفض يديه، في مرحلة ما، من رجله "المغرور" (كما دأب على وصفه مؤخرا وفقا لبعض التسريبات).

لعنة صعدة والانتقام الرئاسي

باختصار؛ لم تعد المشكلة في صعدة: الحوثيون، أو علي محسن الأحمر، أو السلفيون، المشكلة هي أن صعدة خانت الرئيس علي عبدالله صالح بشكل قاسٍ، وعليها أن تدفع ثمن الخطيئة.
حرب صعدة أخفقت في الوصول إلى هدفها، وترتب على الإخفاق حالة "انتقام" لدى الرئيس، ومن هنا جاءت أخطر دعوة أطلقها الرئيس منذ إعلان إيقاف الحرب، دعوة مواطني صعدة، عبر ممثلي المحافظة في مجلس النواب، إلى القيام بطرد الحوثيين من المباني العامة والطرق، إذا كان الأهالي يريدون من الدولة فعلا أن تزيد من حجم المنح المخصصة لإعادة الإعمار، طبقا لتعبير الرئيس خلال أعمال الدورة الاستثنائية للجنة الدائمة للحزب الحاكم.
إنها، بصيغة أخرى، دعوة للاقتتال الأهلي، وبصيغة ثالثة عقاب لمواطني المحافظة الذين لم يكونوا مع الحوثيين، لكنهم أيضا بدوا للحكومة كما لو أنهم خذلوها، والمطلوب منهم الآن أن يلاحقوا "عناصر التمرد" بالنيابة عن صنعاء إذا كانوا يريدون من صنعاء الاعتراف بمشكلتهم و"فك الحصار" عن محافظتهم.
إن صعدة تبدو هنا خارج سيادة الدولة اليمنية، طبقا لخطاب الرئيس صالح، لا فقط بسبب ممارسات الحوثيين.
على أساس من "عقدة الانتقام" ما كان لعبدالقادر هلال أن ينجح في مهمته التي حاول خلالها الخروج من دائرة "خلق انطباع" إلى التعمق في تفاصيل التوتر القائم هناك.
وبدلا من "ذر الرماد" اجتهد هلال للوصول إلى مخارج معقولة من المآزق التي خلفتها الحرب، وفي مرحلة لاحقة بدأ أهالي صعدة، وفي طليعتهم ممثلو المحافظة في البرلمان، يضغطون على الرئيس صالح كي يدعم "عبدالقادر هلال" وجهوده، وكانت هذه هي القشة التي أتت على ما تبقى من عبدالقادر هلال.
لا شيء هنا حقيقيا بشأن التقارير الأمنية المرفوعة عن الرجل، بل ليس صحيحا على الإطلاق أن جهاز الاستخبارات يقف خلف ما حدث له. مجاهد غشيم، مدير الاستخبارات العامة، لا ينتمي إلى أي مركز قوة، هو جديد في منصبه الذي لم يعينه الرئيس فيه إلا لأنه مقطوع الظهر أصلا، كما أن شخصيته لا تنطوي على أي طموحات تدفعه للمغامرة بالدخول في خصومة مع شخصية كعبدالقادر هلال، وكل ما هنالك أنها رغبة الرئيس في "التنكيل".
تقرير "بنت الصحن" يعبر بشكل مثالي عن مزاج الرئيس لا عن خفة تفكير مسؤولي الأمن، تماما كما أن الصحف التي تهاجم منذ مدة، عبدالقادر هلال (الشموع، أخبار اليوم، الدستور، والشورى المزورة) هي أصدق تعبير عن شخصية الرئيس الساخطة، لا عن أي توجه لدى جهات استخباراتية أو عسكرية خارج دائرة دار الرئاسة.

لقد فشل هلال، إذن، في تنفيذ مهمة "صعدة" وفقا لاستراتيجية الانتقام الرئاسية، لكنه خرج أيضا من المهمة وقد نالته "لعنة" صعدة.
إنها اللعنة نفسها التي حلت بعديد شخصيات ووساطات رئاسية منذ 2004، وبعض هذه الوساطات انتهت بأعضائها إلى السجن.
............
*نشر في صحيفة "الشارع"

ليست هناك تعليقات: